فصل: القسم الرابع مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية: ما يقع على سبيل الندور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.القسم الرابع مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية: ما يقع على سبيل الندور:

وهو الذي يقع في حين من الأحيان من غير أن يسبق له نظير.
قال الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في حسن التوسل: ويحتاج الكاتب فيه إلى حسن التصرف على ما يقتضيه الحال.
فمن ذلك ما يكتب به للنيابة الخارجة عن المملكة إذا رغب فيها متوليها.
وهذه نسخة تقليد الشريف من ذلك، كتب به المولى الفاضل شهاب الدين محمود الحلبي لمتملك سيس، بإقراره على ما هو قاطع النهر من بلاده، وهي: الحمد لله الذي خص أيامنا الزاهرة، باصطناع ملوك الملل، وفضل دولتنا القاهرة، بإجابة من سأل بعض ما أحرزته لها البيض والأسل، وجعل من خصائص ملكنا إطلاق الممالك وإعطاء الدول، والمن بالنفوس التي جعلها النصر لنا من جملة الخول، وأغرى عواطفنا بتحقيق رجاء من مد إلى عوارفنا كف الأمل، وأفاض بمواهب نعمائنا، على من أناب إلى الطاعة حلل الأمن بعد الوجل، وانتزع بآلائنا، لمن تمسك بولائنا، أرواح رعاياه من قبضة الأجل، وجعل برد العفو عنه وعنهم بالطاعة نتيجة ما أذاقهم العصيان من حرارة الغضب: إذ ربما صحت الأجسام بالعلل.
نحمده على نعمه التي جعلت عفونا ممن رجاه قريباً، وكرمنا لمن دعاه بإخلاص الطاعة مجيباً، وبرنا لمن أقبل إليه مثيباً بوجه الأمل منيباً، وبأسنا مصيباً لمن لم يجعل الله له في التمسك بمراحمنا نصيباً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تعصم دم من تمسك بذمامها، وتحسم مواد من عاندها بانتقام حسامها، وتفصم عرى الأعناق ممن أطمعه الغرور في انفصال أحكامها وانفصامها، وتقصم من قصد إطفاء ما أظهره الله من نورها واقتطاع ما قضاه من دوامها، وتجعل كلمة حملتها هي العليا ولا تزال أعناق جاحديها في قبضة أوليائها وتحت أقدامها، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالهدى ودين الحق إلى كل أمة، المنعوت في الكتب المنزلة بالرأفة والرحمة، المخصوص مع عموم المعجزات بخمس: منها الرعب الذي كان يتقدمه إلى من قصده ويسبقه مسيرة شهر إلى من أمه، المنصوص في الكتب المحكمة على جهاد أمته الذين لا حياة لمن لم يتمسك من طاعتهم بذمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فتحوا بدعوته الممالك، وأوضحوا بشرعته إلى الله المسالك، وجلوا بنور سنته عن وجه الزمن كل حالٍ حالك، وأوردوا من كفر بربه ورسله موارد المهالك، ووثقوا بما وعد الله نبيه حين زوى له مشارق الأرض ومغاربها من أن ملكهم سيبلغ إلى ما زوى الله له من ذلك صلاةً لا تزال الأرض لها مسجداً، ولا يبرح ذكرها مغيراً في الآفاق ومنجداً، ما استفتحت ألسنة الأسنة النصر بإقامتها، وأبادت أعداءها باستدامتها، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإنه لما آتانا الله ملك البسيطة، وجعل دعوتنا بأعنة ممالك الأقطار محيطة، ومكن لنا في الأرض، وأنهضنا من الجهاد في سبيله بالسنة والفرض، وجعل كل يوم تعرض فيه جيوشنا من أمثلة يوم العرض، وأظلتنا بوادر الفتوح، وأظلت على الأعداء سيوفنا التي هي على من كفر بالله وكفر النعمة دعوة نوح، وأيدنا بالملائكة والروح، على من جعل الواحد سبحانه ثلاثةً: فانتصر بالأب والابن والروح، وألقت إلينا ملوك الأقطار السلام، وبذلت كرائم بلادها وتلادها رغبةً في الالتجاء من عفونا إلى ظل أعلى من الأعلام، وتوسل من كان منهم يظهر الغلظة بالذلة والخضوع، وتوصل من كان منهم يبدي القوة بالإخلاص الذي رأوه لهم أقوى الجنن وأوقى الدروع- عاهدنا الله تعالى أن لا نرد منهم آملاً، ولا نصد عن مشارع كرمنا ناهلاً، ولا نخيب من إحساننا راجياً، ولا نحليء عن ظل برنا لاجياً؛ علماً أن ذلك شكرٌ للقدرة التي جعلها الله لنا على ذلك الأمل، ووثوقاً بأنه حيث كان في قبضتنا متى نشاء نجمع عليه الأنامل؛ اللهم إلا أن يكون ذلك اللاجيء للغل مسراً، وعلى عداوة الإسلام مصراً، فيكون هو الجاني على نفسه، والحاني على موضع رمسه، والمفرط في مصلحة يومه وغده بتذكير عداوة أمسه.
ولما كان من تقدم بالمملكة الفلانية قد زين له الشيطان أعماله، وعقد بحبال الغرور آماله، وحسن له التمسك بالتتار الذين هم بمهابتنا محصورون في ديارهم، مأسورون في حبائل إدبارهم، عاجزون عن حفظ ما لديهم، قاصرون عن ضبط ما استلبته السرايا المنصورة من يديهم، ليس منهم إلا من له عند سيوفنا ثار، ولها في عنقه آثار، ومن يعلم أنه لابد له عندنا من خطتي خسف: إما القتل أو الإسار.
وحين تمادى المذكور في غيه، وحمله الغرور على ركوب جواد بغيه، أمرنا جيوشنا المنصورة فجاست خلال تلك الممالك، وداست حوافر خيلها ما هنالك، وساوت في عموم القتل والأسر بين العبد والحر والمملوك والمالك، وألحقت رواسي جبالهم بالصعيد، وجعلت حماتهم كزروع فلاتهم منها قائمٌ وحصيد؛ فأسلمهم الشيطان ومر، وتركهم وفر، وماكرهم وماكر، وأعلمهم أن موعدهم الساعة والساعة أدهى وأمر، وأخلفهم ما ضمن لهم من العون، وقال لهم: {إني بريءٌ منكم إني أرى ما لا ترون}.
وكان الملك فلانٌ ممن تدبر طرق النجاة فلم ير إليها سوى الطاعة سبيلاً، وتأمل أسباب النجاح فلم يجد عليها غير صدق الانتماء دليلاً؛ فأبصر بالخدمة موضع رشده، وأدرك بسعيه نافر سعده، واراه افقبال كيف ثبتت قدمه في الملك الذي زلت عنه قدم من سلف، وأظهر له الإشفاق على رعاياه مصارع من أورده سوء تدبير أخيه موارد التلف، وعرفه التمسك بإحساننا كيف احتوت يده على ما لم يبق غضبنا في يد أخيه منه إلا الأسى والأسف، وحسنت له الثقة بكرمنا كيف يجمل الطلب، وعلمته الطاعة كيف يستنزل عوارفنا عن بعض ما غلبت عليه سيوفنا: وإنما الدنيا لمن غلب، وانتمى إلينا فصار من خدم أيامنا، وصنائع إنعامنا، وقطع علائقه من غيرنا، فلجأ منا إلى ركنٍ شديد، وظلٍّ مديد، ونصر عتيد، وحرمٍ يأوي أمله إليه، وكرم تقر نضارته ناظريه، وإحسان يمتعه بما أقره عطاؤنا في يديه، وامتنان يضع عنه إصره والأغلال التي كانت عليه- اقتضى إحساننا أن نغضي له عن بعض ما حلت جيوشنا ذراه، وحلت سطوات عساكرنا عراه، وأضعفت عزمات سرايانا قواه، ونشرت طلائع جنودنا ما كان ستره صفحنا عنهم من عورات بلادهم وطواه، وأن نخوله بعض ما وردت خيولنا مناهله، ووطئت جيادنا غاربه وكاهله، وسلكت كماتنا فملكت دارسه وآهله، وأن نبقي مملكة هذا البيت الذي مضى سلفه في الطاعة عليه، ويستمر ملك الأرمن الذي أجمل السعي في مصالحه بيديه، لتتيمن رعاياه به، ويعلموا أنهم أمنوا على أرواحهم وأولادهم بسببه، ويتحققوا أن أثقالهم بحسن توصله إلى طاعتنا قد خفت، وأن بوادر الأمن بلطف توسله إلى مراضينا قد أطافت بهم وحفت، وأن سيوفنا التي كانت مجردةً على مقاتلهم بجميل استعطافه قد كفتهم بأسها وكفت، وأن سطوتنا الحاكمة على أرواحهم قد عفت عنهم بملاطفته وعفت؛ فرسم أن يقلد كيت وكيت ويستقر بهذه المملكة الفاسدة استقراراً لا ينازع ف استحقاقه، ولا يعارض فيما سبق من إعطائه له وإطلاقه، ولا يطالب عنه بقطيعة، ولا يطلب منه بسببه غير طوية مخلصة ونفس مطيعة، ولا تخشى عليه يدٌ جائرة، ولا سريةٌ في طلب الغرة سائرة، ولا تطرق كناسه أسد جيوش مفترسة، ولا سباع نهاب مختلسة؛ بل تستمر بلاده المذكورة في ذمام رعايتنا، وحضانة عنايتنا، وكنف إحساننا، ووديعة برنا وامتناننا؛ لا تطمح إليها عين معاند، ولا يمتد إليها إلا ساعد مساعد وعضد معاضد.
فليقابل هذه النعمة بشكر الله الذي هداه إلى الطاعة، وصان بإخلاص ولائه نفسه ونفائس بلاده من الإضاعة، وليقرن ذلك بإصفاء موارد المودة، وإضفاء ملابس الطاعة التي لا تزداد بحسن الوفاء إلا جدة، واستمرار المناصحة في السر والعلن، واجتناب المخادعة ما ظهر منها وما بطن، وأداء الأمانة فيما استقر معه الحلف عليه، ومباينة ما يخشى أن يتوجه بسببه وجه عتب إليه، واستدامة هذه النعمة بحفظ أسبابها، واستقامة أحوال هذه المنة برفض موجبات الكدر واجتنابها، وإخلاص النية التي لا تعتبر ظواهر الأحوال الصالحة إلا بها.
ومن ذلك ما يكتب به لحكم رماة البندق.
قد جرت العادة أنه إذا كان للسلطان عنايةٌ برمي البندق، أقام لرماته حاكماً من الأمراء الذين لهم عنايةٌ برمي البندق.
وهذه نسخة توقيع من ذلك: الحمد لله الذي خص أيامنا الزاهرة، باستكال المحاسن في كل مرام، وجعل من أولياء دولتنا القاهرة، من أصاب من كل مرمى بعيد شاكلة الصواب حتى أصبح حاكماً فيه بين كل رام، وجمع لخواصنا من أشتات المفاخر ما إذا برزوا فيه للرياضة ليلاً أغنت فسيهم عن الأهلة ورجومها عن رجوم الظلام، وسدد مقصاد أصفيائنا في كل أمر فما شغلوا بمسرة سر إلا وكانت من أقوى أسباب التمرن على خوض الغمرات العظام، واقتحام الحرب اللهام، واشتمال جلابيب الدجى في مصالح الإسلام.
نحمده على نعمه الوسام، وأياديه الجسام، وآلائه التي ما برحت بها ثغور المسار دائمة الابتسام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تعصم من الزلل، وتؤمن من الزيغ والخلل، وتلبس المتمسك بها من أنوار الجلالة أبهى الحلل، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المنزع عن الهوى، المخصوص بالوحي الذي علمه شديد القوى، الدال على اعتبار الأعمال بصحة القصد بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىءٍ ما نوى»، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين وفق الإخلاص مساعيهم، ووفر الإيمان دواعيهم، صلاةً دائمة الاتصال، مستمرة الإقامة بالغدو والآصال، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإنه لما كان رمي البندق من أحسن ما لهت به الكماة، في حال سلمها، ومن أبهج ما حفظت به الرماة، حياة نفوسها وعزة عزمها، على ما فيه من اطراح الراحة واجتنابها، واستدعاء الرياضة واجتنائها، وخوض الظلمات في الظلام، وتوخي الإصابة في غمرات الدجى التي تخفى فيها المقاتل على حدق السهام، وارتقاب ظفر، يسفر عنه وجه سفر، ومهاجمة خطر، تفضي إلى بلوغ وطر- وله شرائط تقتضي التقدم بين أربابه، وقواعد لا يخالفها من كان مبرزاً في أصحابه، وأدوات كمال، لابد للمتحلي بهذه الرتبة منها، وحسن خلال، تهدر أعمال من بعد عليه مرامها وقصرت مساعيه عنها، وعوائد معلومةٌ، بين أرباب هذا الشأن وكبرائه، ومقاصد مفهومةٌ، فيما يتميز به المصيب الحاذق على نظرائه.
ولما كان الجناب العالي الفلاني مما يشار إليه في هذه الرتبة ببنان الترجيح، ويرجع إلى أقواله فيما اقتضى التعديل فيما بين أربابها والتجريح، ويعمل فيها بإشارته الخالصة من الهوى والأغراض، ويعول فيها على قدم معرفته المميزة بين أقدار الرماة مع تساوي إصابة الأغراض، لاحتوائه على غايات الكمال فيها، وسبقه منها إلى مقامات حسان لا يعطيها حقها إلا مثله ولا يوفيها- اقتضى رأينا الشريف أن نعدق به أحكامها، ونرد إلى أمره ونهيه كبراءها وحكامها.
فرسم بالأمر الشريف أن يكون حاكماً في البندق لما يتعين من اختصاصها بجنابه، ويتبين من أولويته بالحكم في هذا الفن على سائر أربابه.
فليل ذلك حاكماً بشروطه اللازمة بين أهله، المعتبرة بها خلال الكمال في قول كل أحد منهم وفعله، المميزة بين تفاوت الرماة بحسب كيفية الرمي وإتقانه، المرجحة في كثرة الطير بإمكانه له في وقت البروز ومكانه، المهدرة ما يجب بين أهل هذا الفن إهداره، المثبتة ما يتعين في كمال الأدوات إثباته في قدم الكبراء وإقراره؛ وليعمل في ذلك جميعه بما تقتضيه معرفته المجمع في فنه عليها، ويتقدم فيها بما تدله عليه خبرته التي ما برح وجه الاختيار مصروفاً إليها؛ والله تعالى يسدده في القول والعمل، ويبلغه مراتب الرفعة في خلاله الجميلة وقد فعل؛ والخير يكون، إن شاء الله تعالى.
قلت: وربما كان المرسوم المكتتب لمن هو دون من تقدم من أمير عشرة أو من في معناه، فيفتتح بأما بعد ويكمل على نحو ما تقدم.
وهذه نسخةٌ ثانيةٌ لحاكم البندق، مفتتحةٌ بأما بعد وهي:
أما بعد حمد الله الذي لا معقب لحكمه، ولا يعزب شيءٌ عن علمه، ولا قنوط من رحمته وسعة حلمه، ملهم أهل محاربة أعداء دينه بالرياضة لها في أيام سلمه، ومنجز وعود السعود لمن كان النجم مبدأ همته، والصدق حلة سجيته، والعز حلية اسمه، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الذي هدى الله بنور ملته العادلة من تردى في ظلمات ظلمه، ورفع منار النبوة بما خصه به من افتتاح التقدم في رتبتها وختمه، وعلى آله وصحبه الذي سرى كلٌّ منهم إلى غاية الكمال على نجائب همته وجياد عزمه- فإن أولى من رعيت له أسباب قدمه وتقدمه، وفتحت له أبواب حكمه في رتبته وتحكمه، وأعيد إلى مكانته التي رقاها باستحقاقه قديماً، ورفع إلى منزلته التي لم يزل بقواعدها خبيراً وبأوضاعها عليماً- من ارتقى في رتبته إلى نجم أفقها، واقتدى في مناهجه بدليل مسالكها وطرقها، فأتى في مصالحها بيوت الإصابة من أبوابها، ونقل فيها أوضاع الإجادة عمن كان أدرى بها، وتقدم فيها تقدم هجرته وسبق قدمه، وبلغ في مقاماتها الغاية بين وثبات ساعده وثبات قدمه، وجمع من أشتات الطير ما افترق في غيره، وحوى من السبق إلى أنواعها ما حكم بسعد نجمه ويمن طيره؛ فكم ليلةٍ أسفر فيما أبرزوه عن صباح نجاحه، وكم طائرٍ زاحم النسرين بقوادمه أصبح لديه محمولاً بجناحه، وكم أنزلت أهلة قسية الطير على حكمها، وكم حكت بنادقه في رجوم الطير المحلقة إلى السماء انقضاض نجمها، وكم أبصر مقاتل الطير وهي من الليل في ظلماتٍ بعضها فوق بعض، وكم اشتغل من الطير الواجب بندب رميٍ لم يشغله من إعداد الأهبة للجهاد عن الفرض، حتى كاد النسر الطائر إذا توهم أن الهلال قوسه يغدو كأخيه واقعاً، والمرزم المحلق في الأفق يمسي لإشارة بنادقه الصم متتبعاً، حتى أصبح وهو الكبير في فنه بآداب التعريف، وأضحى وهو الخبير بنوعه بطريق النقل والتوقيف.
ولما كان فلانٌ هو كبير هذا الفن وخبيره، ومقدم هذا النوع الذي لم يزل بنجلائه عظيم كل عصر وأميره، وقديم هذا المرمى الذي جل المراد به الجد لا اللعب، وأليف هذا المرام الذي ينشط إليه اللاعب ويستروح إليه التعب- اقتضى الرأي الشريف أن نجعله حاكماً في هذه الرتبة الجليلة بما علم أو علم منها، فاصلاً بين أهلها بمعرفته التي ما برحت يؤخذ بها في قواعدها وينقل عنها- فرسم بالأمر الشريف أن يكون حاكماً في البندق.
فليستقر في هذه الرتبة التي تلقاها، بيمين كفايته ويمنه، وارتقاها، بتفرده في نوعه وتقدمه في فنه، وليعتمد الإنصاف في أحكام قواعدها، وإجراء أمر أربابها على أحوالها المعروفة وعوائدها، وينافس المعروفين بها على التحلي بآدابها، والتمسك من المروءة والأخوة بأفضل أهدابها، وينصف بينهم فيما يعتد به من واجبها، ويلزم الداخل فيها بالمشي على المألوف من طرقها والمعروف من مراتبها، ولا يحكم في التقديم والتأخير بهوى نفسه، ولا يقبل من لم يتحر الصدق في يومه أنه قبل منه في أمسه؛ فإن استدامة شروطها أمانٌ من السقوط عن درجها، وإذا حكمت نفوس أهلها الصدق في أقوالها وأفعالها فقد خرجت من خط حرجها؛ وليرع لذوي التقدم فيها قدم هجرتهم، واشتهار سيرتهم الحسنة بين أسرتهم؛ وقد خبر من أصافه الحسنة، وسابق رتبته التي لم تكن عين العناية عنها وسنة، ما اقتضى استقرار رتبته على مكانتها ومكانها، واكتفي له من مبسوط الوصايا بعنوانها؛ فليتق الله في قوله وعمله، ويجعل الاعتماد على توفيقه غاية أمله؛ والخير يكون، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك ما يكتب به في إلباس الفتوة؟ اعلم أن طائفةً من الناس يذهبون إلى إلباس لباس الفتوة، ويقيمون لذلك شروطاً وآداباً جاريةً بينهم. ينسبون ذلك في الأصل إلى أنه مأخوذٌ عن الإمام علي كرم الله وجهه.
والطريق الجاري عليه أمرهم الآن أنه إذا أراد أحدهم أخذ الطريق عن كبيرٍ من كبراء هذه الطائفة، اجتمع من أهلها من تيسر جمعه، وتقدم ذلك الكبير فيلبس ذلك المريد ثياباً، ثم يجعل في كوز أو نحوه ماءً ويخلط به بعض ملح، ويقوم كل منهم فيشرب من ذلك الماء وينسبه إلى كبيره. وربما اعتنى بذلك بعض الملوك. وقد جرت العادة في ذلك أنه إذا ألبس السلطان واحداً من ابن الأمراء أن يكتب له بذلك توقيعاً.
وهذه نسخة توقيع بفتوة، من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وهو:
الحمد لله الذي جعل أنساب الفتوة، متصلة بأشرف أسباب النبوة، وأفضل من أمده منه بكل حيل وقوة، وأسعد من سما فكان علياً على كل من سام علوه.
نحمده حمداً تغدو الأفواه به مملوة، ونشكره على مواهبه بآيات الشكر المتلوة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من جعل إلى منهج التوحيد رواحه وغدوه، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي شد الله أزره بخير من أفتى وفتى فنال كل فتويٍّ من الفتيان به شرف الأبوة والبنوة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نصروا وليه وخذلوا عدوه، صلاةً موصلةً إلى نيل الأماني المرجوة.
وبعد، فإن خير من اتصل به رجاء الرجال الأجواد، وطوى البعيد إلى تحصيل مرامه كل طود من الأطواد، وأماط به عن مكارم الأخلاق لثام كل جود وامتطى ظهر خير جواد، واستمسك من ملابس الشرف بما يؤمن ويؤمل وما يشد به من كل خير لباس التقوى، وما تؤيد به عزيمته فتقوى، وما يتقيد به على رؤوس الأحزاب، وما يتنزل به عليه أحسن آيةٍ من هذا الكتاب- من اشتهر بالشجاعة التي تقدم بها على قومه، وحمد أمسها في يومه، وبالشهامة التي لها ما للسهام من تفويق، ولزرق الأسنة من تحذيق، ولبيض الصفاح من حدة متون، وللسمهرية من ازدحامٍ إذا ازدحمت المنون، ومن صدق العزيمة، ما يشهد به كرم الشيمة، ومن شدة الباس، ما يجتمع به على طاعته كثيرٌ من الناس، ومن صدق اللهجة واللسان، ما اتصف عفافه منهما بأشرف ما يتصف به الإنسان، ومن طهارة ما يتنافس على مثله المتنافسون، ويستضيء بأنواره ألقابسون، ويرفل في حلل نعمائه اللابسون؛ وكان من الذين أبانوا عن حسن الطاعة وأنأبوا، وإذا دعوا إلى استنفار جهادٍ واجتهادٍ لبوا وأجابوا، والذين لا يلوون ألسنتهم عن الصدق، ولا يولون وجوههم عن الحق، والذين لا يقعدهم عن بلوغ الأوطار مع إيمانهم حب الأوطان، وإذا نفذوا في حرب الأعداء لا ينفذون إلا بسلطان.
ولما كان فلانٌ ذو المفاخر، والمآثر، أمير الفتيان، مميز الإخوان والأعيان، هو صاحب هذا المحفل المعقود، والممدوح بهذا المقال المحمود، والممنوح بهذا المقام المشهود، والثناء الذي سر باله بما سربله أثواب العزة والفخار، والاعتناء الذي استخير الله في اصطفائه واختباره في ذلك فخار- اقتضى حسن الرأي الشريف- كرم الله أنصاره، وأعلى مناره- أن نجيب وسائل من وقف في هذا القصد وقفة سائل، لينال بذلك كل إحسان وإحسان كل نائل، ودعا إلى الكريم العام بالإنعام، والدعاء لسلطان يدعى له ويدعو كل الأنام، فقال: أسأل الله وأسأل سلطان الأرض، ملك البسيطة إمام العصر، رافع لواء النصر، ناصر الملة المحمدية، محيي الدولة العباسية، فاتح البلاد والقلاع والأمصار، قاهر الكفار مبيد الفرنج والأرمن والتتار، سلطان الزمان، خسروان إيران، شاهنشاه القان، سلطان العالم وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، الذي انتهى إليه عن أمير المؤمنين الإمام الأواب، المغوار، علي بن أبي طالب ذي الفخار، شرف الفتوة واتصال الأنساب.
قلت: هذا ما وقفت عليه من نسخة هذا التوقيع. وقد ذكر الشيخ شهاب الدين محمودٌ الحلبي في كتابه حسن التوسل نسخة تقليد أنشأه في الفتوة، أسقط منه أول الخطبة وهو: وابتدأ منه بقوله: نحمده على ما منحنا من نعم شتى، ووهبنا من علم وحلم غدونا بهما أشرف من أفتى في الكرم وفتى وآتانا ملك خلال الشرف الذي لا ينبغي لغير ما اختصنا به من الكمال ولا يتأتى، وخصنا به من رفع أهل الطاعة إلى سماء النعم يتبوأون من جنان الكرم حيث شاءوا: وغيرهم لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من انتمى في فخار أبوة التقى إلى حسب علي، وانتهى من بنوة المروءة إلى سببٍ قويٍّ ونسب زكي، وارتدى حلل الوقار بواسطة الفتوة عن خير وصيٍّ عن أشرف نبي، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي نور شريعته جلي، وجاه شفاعته ملي، وبسيفه وبه حاز النصر من انتمى إليه: فلا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.
وبعد، فإن أولى من لبى إحساننا نداء وده، وربى امتناننا نتاج ولائه الموروث عن أبيه وجده، ورقاه كرمنا إلى رتبة علاءٍ يقف جواد الأمل عن بلوغها عند حده، وتلقت كرائمنا وفد قصده بالترحيب، وأنزلت جار رجائه من مصر نصرها بالحرم الآمن والربع الخصيب، وأذنت لأمله ما نأى من الأغراض حتى بلغه بفضلها سهم اجتهاده المصيب، وأعدت له من حلل الجلالة ما هو أبهى من رداء السماء الذي تزداد على الأبد جدة برده القشيب، وخصته لابتناء المجد بأجل بنوة جعلت له في إرث خلال الشرف أوفر حظٍّ وأوفى نصيب- من سمت منابر المجد بذكره، وابتسمت أسرة الحمد بشكر أوصافه ووصف شكره، واختالت مواد الثناء بحسن خلاله، واختارت كواكب السناء إقبال طوالعه بطوالع إقباله، وتمسك من طاعتنا بأمثل أسباب الهدى، واعتصم بعروة بنوة الأبناء فأوطأه التوثق بها رقاب العدا، واتصف بمحاسن الشيم في مودتنا فأضحى فتي السن كهل الحلم يهتز للندى، وانتمى إلينا فأصبح لدينا ملكاً مقرباً، وأوجب من حقوق الطاعة علينا ما أمسى به لدينا- مع جلالة الأبناء- ابناً وغدونا له- في نسب الفخر العريق أباً، ونشأ في مهاد الملك فسما به للعلم والعلم، بالسيف والقلم، والبأس والكرم، واعتزى إلى أبوة حنونا ببنوة رجائه فتشبه بعدل أيامنا: ومن يشبه أباه فما ظلم، وتحلى بصدق الولاء وهو أول ما يطلب في سر هذا النسب ويعتبر، وتحلى لنكاية عدو الإسلام بلطف مكايده إذ السيوف تجز الرقاب وتعجز عما تنال الإبر.
ولما كان فلانٌ هو الذي زان بموالاتنا عقود مجده، وزاد في طاعتنا على ما ورث من مكارم أبيه وجده، وساد الملوك في اقتبال شبابه، وصان ملك أبيه عن عوارض أوصابه باتباع ما أوصى به، وأنفت صوارمه أن تكون لغير جهاد أعداء الله معدة، وعزائمه أن تتخذ عدو الله وعدوه أولياء تلقي إليهم بالمودة، وسهامه أن تسدد إلا إلى مقاتل العدا، وأسنته أن يبل لها من غير مناهل صدور الكفر صدى، مع اجتماع خلال الشرف لشرف خلاله، وافتراق أسباب السرار عن هالة كماله، وسؤاله ما ليس لغيره أن يمد إليه يداً، والتماسه من كرمنا العميم أجل ما نحل والدٌ والداً؛ وأنه وقف على قدم الرجاء الثابت، ومت بقدم غروس الولاء التي أصلها في روض المودة نابت، وقال: أسأل الله وأسأل سلطان الأرض، القائم لجهاد أعداء الله بالسنة والفرض، فاتح الأمصار، الذي لم تزل سيوفه تهاجر في سبيل الله عن غمودها إلى أن صار له من الملائكة الكرام أنصار، الذي كرم الله شرف الفتوة بانتمائها إليه، وأعلى قدر بنوة المروءة باتصالها به عن الخلفاء الراشدين عن أب فأبٍ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأورثه من خلقه الكرم والبأس فتحليا منه بأجل مواف وأكمل موافق، ومنحه بحفظ العهد من خصائصه ما عهد به إليه النبي الأمي من أنه ما يحبه إلا مؤمنٌ ولا يبغضه إلا منافق، أعز الله سلطانه، وأوطأ جياده معاقل الكفر وأوطانه، أن يتقبل قصدي بقبول حسن، ويقبل بوجه كرمه على أملي الذي لم يقعد به عن فروض الطاعات وسننها وسن، وينظمني في سلك عقود الفتوة ملتزماً بأسبابها، مقتدياً بطاعته التي هي أكمل أنسابها، متصفاً بموالاته التي لا يثبت لها حكمٌ إلا بها، آتياً بشروط خدمته التي من لم يأت بها على ما يجب فما أتى البيوت من أبوابها.
فاستخرنا الله تعالى في عقد لواء هذا الفخار لمجده فخار، ونظمناه لعقد هذا المقام الكريم واسطةً لمثله كان يزينها الادخار.
فرسم بالأمر الشريف- لا زال جوده يعلي الجدود، ويوطد لأبناء ملوك الزمن من رتب الشرف فوق ما وطدت الآباء والجدود- أن نصل سببه بهذا السبب الكريم، ونعقد حسبه في الفتوة بأواخي هذا الحسب الصميم، ونعذق نسبه بأصالة هذه الأبوة التي هي إلا عن مثله عقيم، ويفاض عليه شعار هذا الخلق المتصل عن أكرم وصيٍّ بمن قال الله تعالى في حقه: {إنك لعلى خلقٍ عظيم}.
فليحل هذه الهضبة التي أخذت من أفق العز بالمعاقد ويحل هذه الرتبة التي دون بلوغها من نوع الفراقد ألف راقد، ويجر رداء الفخر على أهداب الكواكب، ويزاحم بمواكب مجده النجوم على ورود نهر المجرة بالمناكب، وليصل شرف هذه النسبة من جهته بمن رآه أهلاً لذلك، وليفت في الفتوة بما علم من مذهبنا الذي انتهى فيه منا إلى مالك، وليطل على ملوك الأقطار، بهذه الرتبة التي تفانى الرجال على حبها، ويصل على صروف الأقدار، بهذه العناية التي جعلته- وهي حلية حزب الله- من حزبها، وليصل سر هذا الفضل العميم بإيداعه إلى أهله، وانتزاعه ممن لم يره أهلاً لحمله.
قلت: وما تقدم مما يكتب عن الأبواب الشريفة السلطانية بالديار المصرية والممالك الشامية، لأرباب السيوف، وأرباب الأقلام وغيرهم: من التقاليد، والتفاويض، والتواقيع، والمراسيم: المكبرة والمصغرة، ليس هو على سبيل الاستيعاب، بل على سبيل التمثيل والتذكير، لينسج على منواله، وينهج على نهجه. فإن استيفاء ما يكتب في ذلك مما يشق، ويقف القصد دونه. بلا لابد من حوادث تحدث لم يسبق لها مثال يقتفى أثره. فيحتاج الكاتب إلى حسن التصرف في إيراد ما يلائم ذلك ويناسبه. وكل كاتب ينفق من كسبه، على قدر سعته، والله تعالى هو الموفق إلى نهج الصواب، والهادي إلى طريق الحق في الأمور كلها، بمنه وكرمه.